كانت هذه العبارة هى الصيحة التى أطلقها المرشح الشاب كلينتون فى مواجهة خصمه السياسى المخضرم جورج بوش الأب فى الحملة الانتخابية الأمريكية عام 1992. وكان بوش قد انتهى من إنجاز أحد أنظف الانتصارات العسكرية ــ من حيث كفاءة الأداء ــ بإخراج جيوش صدام حسين من الكويت، وأمن بذلك لبلاده مصادر البترول فى الشرق الأوسط مع إرساء قواعد عسكرية أمريكية هائلة فى السعودية والبحرين وقطر. وقبلها بسنة كان قد سقط الاتحاد السوفييتى، وبذلك تحقق النصر النهائى للمعسكر الغربى ــ بزعامة أمريكا ــ على الخصم العنيد فى الاتحاد السوفييتى وشركائه فى دول وسط وشرق أوروبا. وبذلك تحقق ــ أو هكذا بدا ــ النصر النهائى للمعسكر الغربى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

وفى هذا الجو الغامر من الانتصار التاريخى للولايات المتحدة على مستوى العلاقات الدولية، كان الانطباع الغالب لدى المراقبين هو أن إعادة انتخاب بوش لفترة ثانية هى مسألة مفروغ منها، وأن فرص المرشح المغمور كلينتون، القادم من ولايات الجنوب الفقيرة، محدودة أو ربما منعدمة. ومع ذلك استطاع الشاب كلينتون أن يغير دفة الأحداث، ويوجه الأنظار إلى تراجع الأوضاع الاقتصادية فى أمريكا وبما يهدد مستوى المعيشة للمواطنين. فالأمر الأجدر بالرعاية هو أوضاع الاقتصاد، فهذا ما يحدد وضع الدولة على مستوى العالم، كما أنه يضمن تحسن الأحوال العيشية للمواطنين. وبقية القصة معروفة، فقد حقق كلينتون نجاحا فى الانتخابات الأمريكية واستمر لفترتين، كان فيها أحد أهم الرؤساء الأمريكيين.

وأيا كانت سلامة تحليلات كارل ماركس فقد كانت نظرته صائبة عندما أكد أن أهم محددات تطور المجتمعات هى التغير فى ظروف الإنتاج وشكل التكنولوجيا السائدة. ولعل تاريخ البشرية كله هو تاريخ تطور أدوات الإنتاج منذ العصر الحجرى والاعتماد على اللقط والقنص إلى قيام الثورة الزراعية بعد ترويض النبات والحيوان لخدمة الإنسان والإفادة من مياه الأنهار الكبرى، وأخيرا الثورة الصناعية مع سيطرة العلم على مصادر الطاقة وتطويع المعادن، وما ترتب عليها من وضع شبكات اتصال بين مختلف أرجاء المعمورة.

وفى كل مرحلة من هذه المراحل، كانت المجتمعات تزيد من سيطرتها على البيئة المحيطة بها وتسخرها لاحتياجات الإنسان. وغالبا ــ وإن لم يكن دائما ــ ما أدى تحسين أو تطور قوى الإنتاج إلى تحسين الظروف المعيشية للأفراد وفى غير قليل من الأحوال أدت أيضا إلى زيادة قدراتهم العسكرية واتساع نفوذهم فى الوسط المحيط. وهكذا أدى التقدم الاقتصادى ــ فى معظم الأحوال وليس كلها ــ إلى تحسين ظروف الأفراد المعيشية وتوسع حقوقهم وحرياتهم. وبطبيعة الأحوال، فإن النظم السياسية والقانونية السائدة لعبت دورا حاسما فى شكل توزيع ثمرات هذا التقدم التكنولوجى والمعرفى، إما بتوزيعه وتعميمه على نطاق واسع من الأفراد، وإما على العكس بحصره فى طبقات محددة وضيقة. ففى الحالة الأولى يصاحب التقدم الاقتصادى مزيد من العدالة وحسن التوزيع، وفى الحالة الثانية يزيد تركيز الثروات ويتعايش الغنى الفاحش مع الفقر المدقع. وفى مثل هذه الحالة الأخيرة فإن مظاهر تحديث الاقتصاد وتطويره يصاحبها تزايد فى التوترات الاجتماعية والسياسية وغالبا عدم الاستقرار السياسى، ومن هنا، فإذا كان تقدم الاقتصاد هو محرك التقدم، فإن العدالة تؤدى إلى حسن توزيع ثمرات هذا التقدم على الغالبية. وبغير ذلك فلا استمرار ولا استقرار. ولذلك فإن «الكفاءة» و«العدالة» هما أساس التقدم والاستمرار. فلا تقدم أو تحسين فى ظروف الناس بدون «كفاءة» أو اقتصاد سليم وديناميكى، ولكن بدون «عدالة» فإن الإحساس بالظلم ما يلبث أن يوجد بؤر الرفض والمقاومة وعدم التعاون وأحيانا التخريب، وبذلك يضطر النظام القائم إلى تخصيص مزيد من موارده للدفاع عن نفسه أو لشراء الذمم. وبذلك تصبح تكلفة استمرار النظام أكثر من عوائده، وبالتالى ما يلبث أن يفقد النظام القدرة على تحقيق «الكفاءة»، ويصبح عبئا على كل من «الكفاءة» و«العدالة» معا. وهكذا يتضح أن «العدالة» ليست تكلفة على «الكفاءة» بقدر ما هى بوليصة تأمين لاستمرار النظام وتقدمه. فلا تقدم اقتصادى بدون «عدالة»، كما أن «العدالة» وحدها بدون كفاءة ليست بديلا، وإنما هى فشل فى الأمرين معا. «فالعدالة» دون كفاءة هى مساواة فى الفقر، الأمر الذى يولد ــ غالبا ــ تدهورا فى المستوى العلمى والمعرفى وبالتالى الوقوع فى شرك الخزعبلات والتخلف. فلا مناص من اقتصاد ديناميكى يجارى آخر التطورات التكنولوجية ويشارك فيها. ولكن الاقتصاد المتحرك دون عدالة، فإنه يسير فى حقل ألغام واستقراره دائما مهدد، وغالبا ما يضطر إلى تخصيص موارد كبيرة لحماية نفسه، وبذلك فإن «كفاءته» الاقتصادية تصبح دائما مهددة وغير مستقرة. وهكذا لا مناص من اقتصاد «كفء»، كما أنه لابد من «عدالة اجتماعية» لحماية هذا الاقتصاد.

وعندما نتحدث عن «كفاءة الاقتصاد»، فإننا نشير إلى أمرين متكاملين، وهما الانفتاح على التكنولوجيا الحديثة والمشاركة فيها من ناحية، ووجود «النظام الاقتصادى» المناسب الذى يستطيع من خلال مؤسساته تقبل هذه التكنولوجيا ويساهم فيها ويطورها من ناحية أخرى. وهكذا فإن الاهتمام بتطوير الاقتصاد يتطلب مراعاة هذين الأمرين، بأن يكون نظامنا الاقتصادى قادرا وراغبا على تقبل التكنولوجيا المنظومة والمساهمة فيها. وشأن مصر فى هذا الصدد لا يختلف عن دول أخرى سبقتنا، وجاءت بعد الثورة الصناعية التى عرفتها أوروبا ثم الولايات المتحدة منذ منتصف القرن الثامن عشر وحتى الآن. فنحن بصدد دول من العالم الثالث التى حاولت اللحاق بما حققته الدول الصناعية الأخرى. فوضع مصر يتشابه ــ وإن لم يتطابق ــ مع أوضاع اليابان التى حاولت اللحاق بركب التقدم الصناعى بعد ثورة «الميجى» فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، أو وضع روسيا بعد الثورة البلشفية فى الربع الأول من القرن العشرين، وأخيرا الصين (و أيضا دول جنوب شرق آسيا) فى الربع الأخير من القرن العشرين. فما الدروس المستفادة من هذه التجارب؟

فى كل هذه التجارب، حاولت هذه الدول الانتقال من اقتصاديات راكدة تمثل مرحلة ما قبل الصناعة الحديثة إلى اللحاق بركب الصناعة العالمية المتقدمة فى أوروبا وأمريكا، وكلها ــ بشكل أو بآخر ــ حاولت استيراد التكنولوجيا الصناعية أو تقليدها من الصناعات الغربية فى أوروبا وأمريكا. ومع ذلك فإنها لم تسلك كلها نفس المسار فى درجة الاندماج فى الاقتصاد العالمى.

فاليابان، التى كانت جزيرة منعزلة إلى حد بعيد عن العالم الخارجى، بدأت مع ثورة «الميجى» فى الستينيات من القرن التاسع عشر، وذلك بعد حوالى نصف قرن من تجربة محمد على فى مصر، وذلك بمحاولة تقليد النموذج الغربى بما فى ذلك محاولة تقليد الملابس الغربية، حتى إن الإمبراطور ــ وهو شبه إله لدى مواطنيه ــ بدأ فى ارتداء الملابس الغربية، وهناك صور لولى عهده مع الأمير إدوارد ولى العهد البريطانى، وكلاهما يلبسان نفس الرداء تقريبا. واليابان دولة فقيرة فى الموارد الطبيعية، ولذلك فإن نهضتها الصناعية كان لابد لأن تعتمد على العالم الخارجى فى استيراد معظم الموارد الأولية وتصنيعها وتصديرها للخارج. ومن هنا قامت شركات التجارة اليابانية بدور هائل فى تطوير الصناعة اليابانية من أجل التصدير. وهكذا بدأت اليابان ــ ذات التاريخ المنغلق ــ بالانفتاح على العالم من أجل تحديث صناعتها ودخول العصر. وباندماج اليابان فى الاقتصاد العالمى حققت نتائج مذهلة فى وقت قصير نسبيا، واستطاعت أن تهزم روسيا فى 1904 وبدأت تتوسع فى منشوريا على حساب الصين. وجاءت الحرب العالمية الثانية وألقيت القنابل الذرية عليها مما أعادها إلى ما يقرب من نقطة الصفر. وبعد ذلك استعادت موقعها الاقتصادى بسرعة من خلال إعادة اندماجها فى الاقتصاد العالمى. ومنذ السبعينيات من القرن الماضى عادت اليابان بقوة إلى الساحة العالمية، وقد وسعت تجارتها الخارجية حتى أصبحت القوة الاقتصادية الثانية على مستوى العالم. وفى كل هذا اعتمدت استراتيجيتها على الانفتاح على العالم مع التركيز على التصنيع من أجل التصدير والأخذ بـ«اقتصاد السوق» فى ظل الرقابة والتدخل الشديد من الدولة من خلال وزارة التجارة الخارجية والصناعة ذات النفوذ القوى على الصناعة.

أما الاتحاد السوفييتى ــ روسيا سابقا ثم لاحقا ــ ورغم أن بداية نهضته الصناعية قد بدأت فيها ــ على حياء ــ قبل الثورة البلشفية، فإن قيام الثورة الشيوعية بها فرض عليها نوعا من العزلة الاقتصادية. ومع الأزمة المالية العالمية فى الثلاثينيات، بدأ الاتحاد السوفييتى البرامج الخمسية للتصنيع، واستفاد من أزمة العالم الرأسمالى للحصول على الكثير من التسهيلات المالية لاستيراد الآلات والمصانع من الولايات المتحدة وغيرها. وكان التركيز فى سياسته التصنيعية هو على الصناعات الثقيلة مع المزارع الجماعية، وذلك فى ظل نظام للتخطيط المركزى فى اقتصاد شبه منغلق عن الاقتصاد العالمى. ومع قيام الحرب العالمية الثانية ووقوف الاتحاد السوفييتى مع دول الحلفاء، حصل الاتحاد السوفييتى على العديد من الآلات والمعدات من الولايات المتحدة فى ظل ما عرف آنذاك بقانون «الإعارة والتأجير». وبعد الحرب مباشرة، عاد الاتحاد السوفييتى إلى سياسة الستار الحديدى، وركز معظم معاملاته التجارية مع دول المعسكر الاشتراكى، وإنجر العالم إلى حرب عالمية ثالثة هى الحرب الباردة. وفى هذه المواجهة بين طرفى هذه الحرب الباردة استطاع الاتحاد السوفييتى أن يحقق نوعا من التفوق العسكرى على الولايات المتحدة فى الوقت الذى عرف فيه اقتصاده المدنى تدهورا كبيرا. كذلك بدأت دول المعسكر الاشتراكى فى أوروبا فى التململ من النظام الشيوعى، وكان أبرز مظاهره سقوط جدار برلين فى 1989، مما أدى إلى سلسلة من الانهيارات السياسية فى دول المعسكر الاشتراكى واحدة بعد أخرى، حتى سقط الاتحاد السوفييتى نفسه بعد ذلك بسنتين. وعادت روسيا من جديد إلى اسمها السابق بعد أن تخلت عن النظام الشيوعى، كدولة من الدرجة الثانية، وإن كانت تتمتع بقوة نووية وعسكرية هائلة. وهكذا يتضح أن تجربة روسيا فى اللحاق بالعالم الصناعى، قد قامت على نوع من الانغلاق الاقتصادى واستبعاد «اقتصاد السوق» فى ظل دكتاتورية البروليتاريا. وكانت الحصيلة قوة عسكرية هائلة واقتصاد هش.

ومن التجارب المهمة لما بعد الحرب العالمية الثانية ما عرفته دول جنوب شرق آسيا والمعروفة «بالنمور الآسيوية»: كوريا الجنوبية، تايوان، سنغافورا، هونج كونج، وقد لحقها بعد ذلك عدد من الدول المجاورة فى ماليزيا وتايلاند وأندونسيا كما يمكن أن نضيف أيضا تركيا والبرازيل. وقد قامت تجربة معظم هذه الدول، خاصة «النمور الآسيوية»، على أساس الانفتاح على العالم الخارجى فى «ظل اقتصاد السوق» مع حكومات قوية فى نفس الوقت. وإذا كانت سنغافورا وهونج كونج أشبه بمدن، فإن كوريا الجنوبية وتايوان دول متوسطة الحجم. وقد حققت هذه الدول ما يشبه المعجزة الاقتصادية فى سياسات اعتمدت ــ بوجه خاص ــ على التصدير وفتح الأسواق الخارجية مع الأخذ بـ«اقتصاد للسوق» فى ظل دولة قوية تفرض انضباطا شديدا وإدارة حازمة ويقظة مع درجة عالية من النزاهة (خاصة سنغافورا) فضلا على توفير أعلى مستويات التعليم. وقد جاوز معدل الدخل الفردى فى سنغافورا الآن متوسط الدخل الفردى الأمريكى.

وأخيرا نأتى إلى الصين، آخر وأهم تجارب الدول النامية فى اللحاق بركب الدول الصناعية. وقد كانت الصين، وحتى نهاية القرن السابع عشر، أغنى دول العالم، وإن لم تكن قد عرفت بعد ثورتها الصناعية، رغم أنها قدمت للعالم أهم المخترعات التى كانت الأساس فى النهضة الصناعية. فقد اكتشفت الصين البوصلة والتى ساعدت على الكشوف الجغرافية وتوسع التجارة العالمية، كما كانت أول من عرف فكرة المطبعة بالحروف المتحركة والتى فجرت ثورة المعرفة، وأخيرا وليس آخرا فقد جاء منها «البارود» الذى استخدمته بوجه خاص فى الألعاب النارية وليس فى العمليات العسكرية. وقد ظلت الصين عالما بذاته مستقلة عن الآخرين ومترفعة عنهم باعتبارها مركز العالم ومحوره. وقد عرفت هذه الدولة المعتزة بتاريخها إذلالا من الأجانب منذ القرن الثامن عشر وحتى القرن العشرين، حيث فرضت عليها الدول الغربية الصناعية التدخل فى شئونها بضرورة فتح مدنها للتجارة الأوروبية وحتى بضرورة السماح بتجارة الأفيون فيها، مستخدمة فى ذلك قواتها البحرية التى وصلت شواطئها، اعتمادا على وجود البوصلة التى اكتشفتها الصين، ومهددة بآلاتها العسكرية المزودة بالبارود الذى قدمته الصين للعالم، واعتمادا على العلوم والمعرفة التى انتشرت بفعل المطبعة التى بدأت فى الصين. وهكذا دخلت الصين القرن العشرين وهى مصابة فى كبريائها، وبدأت بها حركات التمرد، كان أهمها حركة ماوتسى تونج تحت راية الحزب الشيوعى. وبنجاح ثورة ماوتسى تونج فى عام 1949، ظهرت الصين الشيوعية على الخريطة العالمية كأكبر تجمع بشرى، وكان من الطبيعى أن يعتمد ماوتسى تونج فى أول الأمر على الاتحاد السوفييتى واستلهم النموذج السوفييتى فى تنظيم الاقتصاد الوطنى. وكان ماوتسى تونج يؤمن بالثورة الدائمة والتعبئة المعنوية للشعب، فانتقل من «رحلة الألف ميل» إلى «الثورة الثقافية». وفى نفس الوقت اكتشف مدى التناقص الاستراتيجى بين الاتحاد السوفييتى والصين، وأن أطماع الاتحاد السوفييتى الإقليمية تجاوز فى مخاطرها الخلاف الأيدولوجى مع الولايات المتحدة. وكانت «الثورة الثقافية» قد خرجت عن حدودها وكادت تهدد الدولة بالفوضى، فاستدعى ماوتسى تونج رفيقه دنج زياوبنج من منفاه السياسى بعد استبعاده لأفكاره التحررية ــ فى منطق الحزب الشيوعى ــ كما رحب بزيارة نيكسون للصين التى تم الإعداد لها مسبقا من كيسنجر لتوثيق العلاقات مع الولايات المتحدة مع الصين كرادع للاتحاد السوفييتى. وبعد وفاة ماوتسى تونج وسيطرة العناصر المتطرفة فى الحزب بزعامة زوجته ــ عصابة الأربعة ــ استطاع دنج زياوبنج فى 1979 السيطرة على الموقف وإعادة توجيه الاقتصاد والدولة للانفتاح على العالم خاصة مع الولايات المتحدة، وفتح الباب للقطاع الخاص وجذب الاستثمارات الأجنبية فى المناطق الصناعية الجديدة. وعرفت الصين خلال الثلاثين عاما التالية أعلى معدلات للنمو فى العالم وزادت تجارتها مع الولايات المتحدة من أقل 350 مليون دولارا آنذاك إلى عدة تريليونات من الدولار الآن، وأصبحت الصين ــ أو كادت ــ تصبح القوة الاقتصادية الثانية فى العالم، وهناك من يتنبأ بأنها قد تصبح القوة الأولى خلال عقدين أو ثلاثة. وبذلك أصبحت الصين أهم شريك اقتصادى للولايات المتحدة، وهى تحوز الآن أكثر من نصف أذون وسندات الخزانة الأمريكية المطروحة فى الخارج.
هذه باختصار أهم التجارب الحديثة لدول العالم الثالث للحاق بالعالم الصناعى المتقدم. فما أهم الدروس المستفادة؟ ثلاثة دروس.

الدرس الأول: الانفتاح على العالم الخارجى: فى ثلاثة أمثلة (اليابان، النمور الآسيوية، الصين) من الأربعة نماذج المتقدمة، اعتمدت دولها لتحقيق نهضتها الصناعية على الانفتاح على العالم الخارجى. وفى المثال الرابع (الاتحاد السوفييتى) للانكفاء على الداخل، كانت النتيجة انهيار اقتصادى لأكبر قوة عسكرية فى العالم. ولعل السبب فى ذلك سهل وواضح. فالتكنولوجيا المعاصرة عالمية بطبيعتها، ولذلك فإن المشاركة الفعالة فيها تتطلب الانفتاح على العالم وإن كان ذلك يتطلب يقظة ووعى. ومن هنا أهمية الدرس الثانى.

الدرس الثانى: دولة قوية: فى جميع الأمثلة الناجحة كنا بصدد حكومات قوية ودول صارمة تدرك مصالحها القومية وتدافع عنها كما تدرك أهمية ما يدور فى العالم. وسواء تعلق الأمر باليابان بعد ثورة الميجى أو بدول جنوب شرق آسيا أو بالصين، فإننا نتحدث عن دول تتمتع بإدارة حازمة وتتمتع بسلطات كبيرة على الاقتصاد الوطنى لمنع الانحراف. وذلك فى الوقت الذى حين كانت دولة الاتحاد السوفييتى غارقة فى نظام بيروقراطى متزمت مع فساد فى الحزب الحاكم. فهى دولة قوية ظاهريا وهشة فى الواقع.

الدرس الثالث: اقتصاد السوق: هو أن جميع الدول التى حققت هذه الطفوة الاقتصادية اعتمدت على نظام «اقتصاد السوق»، لكنها ليست السوق المنفلتة بل هى سوق خاضعة لإشراف ورقابة الدولة، وهى أسواق تحكمها القوانين وعادة ما تتمتع بالنزاهة وقدر كبير من الشفافية والمساءلة. فحتى الصين التى مازالت تتمسك بالحكم الشيوعى، فإنها تطبق نظام «اقتصاد السوق» فى المناطق الصناعية الجديدة.

وماذا عنا فى مصر الآن. لقد قامت فى مصر ثورة شعبية هائلة، ونأمل أن نصل قريبا إلى وضع مؤسساتنا السياسية الجديدة موضع التنفيذ. فهل لدينا رؤية اقتصادية. للمستقبل؟ سؤال يستحق الاهتمام.

نقلا عن جريدة الشروق